فى ظهيرة يوم الجمعة (5 رمضان سنة 403هـ / 20 مارس 1013م) تجمع الكثير من النـاس لآداء صلاة الجمعة داخل أكبر صحن لمسجد تم تشييده فى مصر الفاطمية، خرج أبناء مصر الكرام بعيدًا عن سور القاهرة الكبير لأول مرة فى التاريخ لمشاهدة أكبر صرح إسلامي أطلقوا عليه بأنفسهم بعد هذا الحدث بأيام قليلة اسم ” جامع الحاكم بأمر الله “
ما يميـز هذه التحفة العتيقة عن سائر الآثار الإسلامية في مصر لم يكن تصميمه الراقي ولا الفن المعماري العتيق ولا حتى هدوءه الخـاص، لكن تفرده يأتي كونه تأثر بكافة الأحداث التاريخية التي مرت عليه بشكل استثنائي رسمت معها منحنى من الصعود والسقوط، بداية بدولة الفاطميين مرورًا بالمماليك والعباسيين حتى عصر الجمهورية!
أما عن وضعه الحالي، فهو يقع بنهاية شارع “المعز لدين الله الفاطمي” بحي الجمالية، ملاصقًا لباب الفتوح، حيث يحدُّه من الشمال سور القاهرة الشمالي القديم، يجاوره شرقًا وكالة قايتباني وباب النصر، والجهة الغربية تحوي على المدخل الرئيسي على شارع المعز، أما بالنسبة للجنوب فهي منطقة سكنية أقرب ما تكون للعشوائيات!
تاريخه الدرامي:
يرجع تاريخ الجامع إلى أواخر القرن التاسع الميلادي، الثالث الهجري (379 هـ – 989 م) حينما أمر الخليفة الفاطمي الخامس “العزيز بالله” ببناء مسجد كبير خارج سور القاهرة في ذلك الوقت نظرًا لعدم استطاعة الجامع الأزهر استيعاب الكم الهائل من المصلين إلى جانب عدم قدرته على إقامة مراسم الخلفاء، أثناء فترة بنائه توفي الخليفة وتوقفت أعمال البناء حتى أمر الخليفة الجديد “الحاكم بأمر الله” ابن الخليفة الراحل بتكملة البناء حتى انتهى عام (402 هـ- 1012 م) ولهذا سُمّي مسجد الحاكم بأمر الله نسبة إليه.
بناء المسجد
وُضِع حجر الأساس عام (380 هـ – 990 م) واستمر العمل بالجامع حوالي أربعة عشر عامًا كانت تحتوي على الكثير من الأحداث، بدايةً بوفاة الخليفة العزيز بالله في أوائل عام (381هـ / 991م)، وبالتالي توّقف جميع الأعمال التى أمر بإقامتها كما ذكرنا، لكن استكمل البناء بعدها بأيام قليلة على يد “الحاكم بأمر الله” الذ تولى الخلافة بعد أبيه، وتم الانتهاء من الجامع عام (393 هـ – 1002 م)، لكن بعد ذلك قرر بناء قاعدتي المئذنة للتدعيم وزيادة جمالية وفخامة الجامع، لينتهى تمامًا عام (402 هـ- 1012 م)، وصُليت فيه أول جمعة في الخامس من رمضان سنة 403هـ / 20 مارس 1013م.
مكانته داخل الدولة الفاطمية
مرّ على الجامع الكثير من الأحداث التي غيّرت من وضعه داخل أروقة الدولة الفاطمية، بدايتها كانت مع تعليمات من الخليفة “الحاكم بأمر الله” بإقرار التدريس في الجامع، والسماح لعلماء الأزهر بالتدريس واللتحاق به، وبذلك القرار أصبح ” الجامعة الرابعة فى مصر” بعد جامع عمرو بن العاص وجامع أحمد بن طولون وجامع الأزهر.
آخر التغيّرات كانت تلازمًا مع تجديد الخليفة “المستنصر” لسور القاهرة الشمالي وضم الجامع داخله، وبالتالي أصبح جزء هام داخل قاهرة المعز.
أحداث غيرت الكثير من معالمه
- عندما قام المستنصر بتجديد سور القاهرة الشمالي، وأدخل الجامع داخل الأسوار، قام بتجديد بعض أجزاء المئذنة الشمالية ليتناسب مع الرتم المعماري لسور القاهرة
– في عهد المماليك حدث زلزال قوى عام (702هـ -1312م ) مما أدى إلى تصدع الكثير من أجزاء الجامع وسقوط أجزاء من المئذنة، فأمر “ركن الدين بيبرس” بعمل الإصلاحات اللازمة.
– في عهد الخلافة العباسية قام “الناصر حسن بن محمد بن قلاون” بتجديد للمسجد وتم كسو أرضية الجامع بالرخام.
– في أوائل القرن الثالث عشر قام نقيب الأشراف “السيد عمر مكرم” بتجديد بعض أجزاء المسجد وكسا القبلة بالرخام، كما أضاف بجوارها منبرًا ومحرابًا، وكانت هذه آخر فترة الاهتمام بالجامع الحاكم.
الجـامع والإهمال
- في بداية القرن الخامس عشر تعرض المبنى للإهمال الشديد حتى وصل به الحال إلى شبه بقايـا! مما نتج عنه الكثير من الأحداث المأساوية:
– أول هذه الأحداث كانت تلازمًا مع دخول الحملة الفرنسية، حيث أصبح الجامع في هذه الفترة مقرًّا رئيسيًّا لجنود الحملة، وتحولت مئذنتاه إلى برجي مراقبة! وهذا التصرف يدل على الإهمال الكارثي الذي وصل إليه جامع الحاكم حتى وصل إلى مبنى مهجور!
– في بداية القرن الثامن عشر وبعد خروج الحملة الفرنسية أقام فيه مجموعة من بلاد الشام، وجعلوه مكانًا لصناعة الزجاج ونسج الحرير!
– في أواخر القرن الثامن عشر تحول المكان إلى مخزن ومتحف إسلامي للحفاظ على التراث العربي الإسلامي من الوفود الأوربية “الســارقة” في ذلك الوقت، وأطلق عليه اسم “دار الآثار العربية” كأول متحف إسلامي من نوعه، لكن في أوائل القرن التاسع عشر نُقلت التحف إلى مبنى جديد بباب الخلق سُمي “متحف الفن الإسلامي” كأكبر متحف إسلامي فى العالم.
– بعد هذا الحدث بسنوات قليلة تم بناء مدرسة صغيرة فى صحن الجامع، عُرفت فيما بعد باسم “مدرسة السلحدار الابتدائية”
– مع إقامة المدرسة أصبحت أروقة المسجد فارغة، لينتهى بها الحال إلى مخازن لتجار المنطقة المحيطة بالجامع!
طائفة البهرة وانتشال الجامع
في أواخر القرن الماضي وبالتحديد في عهد الرئيس المصري الراحل “محمد أنور السادات” تقدمت طائفة “البهرة الشيعية” بطلب إلى الحكومة المصرية لتطوير وترميم وإعادة تهيئة الجامع بجهودهم الذاتية، وذلك يرجع إلى مكانة “الحاكم بأمر الله” عندهم التي تصل إلى درجة القدسية، لأن طائفة البهرة يرجع تاريخها إلى العصر الفاطمي في الأساس.
على أي حال تم قبول هذا الطلب وحدث ذلك بالفعل وقامت أعمال تطوير وترميم عظيمة بالمسجد، لكن للأسف معظم هذه الأعمال لم تكن تتناسب مع طابعه المعماري الإسلامي العتيق، وهذا يظهر بوضوح داخل أروقة الجامع (أعمال محارة – إضافة محراب – غيرها)، لكن ذلك لا يمنع أنها أعادت المسجد إلى الحياة مرة أخرى وأعادت إليه بهاءه كما في السابق.
المُلفت هنا هو عدم المساس إطلاقًا بعمارة المأذنتين، سواء من ترميم أو تطوير وتُركتا على حالهما منذ أكثر من 10 قرون.
عمارة المسجد (بعد الترميم)
يقع المسجد الآن على مساحة (16200 متر مربع )، ويتبع نظام الأروقة والصحن المكشوف (النظام القديم) الصحن الداخلي للمسجد يعتبر من أكبر الصحون الداخلية المتواجدة فى مصر من حيث المساحة، حيث يبلغ حوالي ( 5330 متر مربع) وهو مكسوّ بالرخام الأبيض، ويتوسطه فسقية رخامية فريدة، كما يوجد في أركان المسجد الجنوبية حوض صغير للوضوء أيضًا، بالنسبة للأروقة فهي أربعة كما ذكرنا وأكبرهم الرواق الشمالي الذي يحوي على المحرابان القديم والجديد والمنبر الخشبي. والمسجد لديه ثلاث قباب أعلى الرواق الشمالي، بالنسبة للمداخل فعددها الأصلي تسعة محيطة بجميع أرجاء الجامع، لكن الآن يعمل فقط الذي يطل على شارع المعز.
في الختام:
كل هذه الأحداث والتطورات التي مرت على المسجد، إضافة إلى أهميته التاريخية فى عصر الدولة الفاطمية جعلته واحدًا من أجمل المساجد بالقاهرة القديمة، رقيٌّ معماريٌّ إسلاميٌّ فريد صنع حجر أساس قوي يُبنى عليه أي تعديل دون أن يقلل من عظمته، أكثر من 1000 عام مرت عليه، حملت بين طياتهـا العديد من الأحداث منها ما هو جيد وأغلبــها مأساوي، لكنها لم تمنعه من الكفاح لكىي يبقى رابع المساجد الجــامعة فى القاهرة القديمة!
نصحيـة.. إذا أردت أن تبتعد قليلًا عن ضوضاء العالم الذي يحيطنا لتحصل على بعض الهدوء والسكينة، فما عليك سوى الذهاب إلى جامع الحاكم بأمر الله!
إشترك بالنشرة البريدية
تحويل كودإخفاء محول الأكواد الإبتساماتإخفاء